Header Ads

Header ADS

محمد بن عبد الكريم الخطابي

 يعد محمد بن عبد الكريم الخطابي أيقونة المقاومة المغربية في النصف الأول من القرن العشرين، لم يكن مجرد قائد عسكري فذ، بل رمزًا خالداً للصمود والإباء. جسّد بشجاعته وأخلاقه النبيلة روح الريف وشموخ المغرب، وظل إرثه حيًا في ذاكرة الأمة، منارة تلهم الأجيال بقيم الحرية والعزة.

ولادته ونشأته

في قرية أجدير الصغيرة، الواقعة بين جبال الريف الشامخة والمطلة على خليج الحسيمة في شمال المغرب، ولد محمد بن عبد الكريم الخطابي، ذاك الفتى الذي سيصبح لاحقًا رمزًا للنضال والحرية. وُلد في أحضان قبيلة بني ورياغل العريقة عام 1882، وكان الابن البكر لعبد الكريم القاضي والفقيه، ووالدته ثيموت ابنة الفقيه أحمد بن القاضي، لينشأ في بيت اتسم بالعلم والدين والمكانة.

لم تكن أصوله محلية فقط، بل تعود إلى جذور عربية ضاربة في القدم، حيث أتى جده الأعلى، زرعة الينبوعي، من بلدة ينبع في الحجاز ليستقر في الريف منذ أكثر من ألف عام، ما أضفى على أسرته عراقة تجاوزت الحدود الجغرافية.

في كنف عائلته، التي عُرفت بالرئاسة الروحية والعلمية، شبّ محمد وترعرع، محاطًا بأجواء العلم والدين. تلقى تعليمه الأول في مسجد قريته، حيث حفظ القرآن بالقراءات السبع، ونهل من علوم التوحيد والنحو والتاريخ والشريعة، حتى تمكن من إتقان اللغة العربية رغم نشأته وسط مجتمع أمازيغي. لم يكتفِ بذلك، بل حفظ أكثر من ستة عشر ألف بيت من الشعر العربي، ما شكّل أساسًا ثقافيًا متينًا لشخصيته.

لم تكن حياته مقتصرة على الكتب والدروس، فقد تعلم الفروسية والرماية، وكان السلاح رفيقه الدائم منذ صباه، يحمله بفخر ويتدرب به كأي شاب ريفي يتهيأ لمواجهة التحديات.

في سن العشرين، قرر والده أن يفتح له أبوابًا جديدة من العلم، فأرسله إلى مدينة فاس، حيث التحق بجامع القرويين. هناك، نهل من علم كبار شيوخ عصره مثل الشريف محمد القادري والتهامي كنون، وتميز بذكائه وتفوقه في الدروس والتحصيل، ما جعله يحظى بتقدير أقرانه وأساتذته.

لم يقف عند حدود العربية والأمازيغية، فقد تعلم الإسبانية عندما انتقل إلى مليلية، وأتقن التحدث بها وقراءتها، ثم أضاف الفرنسية إلى رصيده المعرفي أثناء منفاه، حيث واصل تعليمه الذاتي بقراءة الكتب والصحف التي كانت تُتاح له.

حياته المهنية

في مسيرة مهنية اتسمت بالتنوع والطموح، تولى محمد بن عبد الكريم الخطابي مهامًا عدة، استهلها في مدينة مليلية الواقعة تحت النفوذ الإسباني، حيث بدأ كمعلم في مدرسة ابتدائية عُرفت باسم "المدرسة الأهلية" (الإنديخينا). هناك، قام بين عامي 1907 و1913 بتعليم أبناء المغاربة المقيمين بالمدينة، في مهمة حملت معها بذور الأمل في تعزيز التعليم بين صفوف أبناء وطنه.

بالتوازي مع ذلك، ولج عالم الصحافة عبر بوابة جريدة "تيليغراما ديل ريف"، حيث وقع عليه الاختيار ليكون محررًا يُساهم في جذب القراء المغاربة من خلال كتابة أخبار باللغة العربية في الصفحة الأولى. وصفه مدير الجريدة، كانديدو لوبيرا خيريلا، بأنه "صحفي بالفطرة، مثابر، منضبط، وصدوق"، وهي صفات نادرة في محيطه آنذاك، كما قال.


لم يقتصر نشاطه على التعليم والصحافة، بل شغل وظيفة مترجم في الإدارة المركزية لمكتب الشؤون الأهلية عام 1910، حيث أتاحت له ثنائيته اللغوية في الأمازيغية والإسبانية، إلى جانب خلفيته كابن قاضٍ وصاحب شهادة تعليمية، أن يتقلد هذا المنصب. ولم يمضِ وقت طويل حتى تمت ترقيته عام 1912 إلى منصب مراقب في المكتب ذاته، حيث اضطلع بجمع وتحليل المعلومات المتعلقة بالقبائل، ما عزز معرفته العميقة بتركيبة المجتمع الريفي.

وفي ذات العام، تولى تعليم اللغة الأمازيغية للضباط الإسبان في أكاديمية اللغة العربية بمليلية، والتي كانت قد أضافت الأمازيغية إلى مناهجها عام 1914، ليبرز كجسر تواصل ثقافي ولغوي في زمن اتسم بالتوتر بين المحتل والشعب.

في أغسطس 1913، ارتقى إلى منصب القاضي بمكاتب الشؤون الأهلية، ثم عُين القاضي الأول بأمر من المقيم العام الإسباني عام 1914. غير أن مسيرته لم تخلُ من العثرات، فقد اعتُقل في 6 سبتمبر 1915 بتهمة مزاولة العمل السياسي بما لا يتماشى مع منصبه الرسمي. بقي في المعتقل قرابة 11 شهرًا، حتى برأته المحكمة العسكرية، فعاد إلى منصبه، ثم قرر بعد ذلك العودة إلى قبيلته.

خلال فترة نفيه إلى جزيرة لارينيون، أظهر محمد بن عبد الكريم الخطابي براعة في التجارة، حيث بدأ بإدارة متجر صغير للمواد الغذائية، ليتوسع نشاطه لاحقًا إلى تجارة الأقمشة والتجهيزات المنزلية، وحتى الذهب والعطور. لم تقتصر جهوده على التجارة فحسب، بل عمل أيضًا في الزراعة، فاعتنى بزراعة نبات الجيرانيوم العطري، الذي يُستخرج زيته لصناعة العطور والمواد الطبية، بالإضافة إلى زراعة قصب السكر وأشجار الفواكه، وتربية الدواجن وزراعة التين والعنب الأبيض.

هكذا، تميزت حياة الخطابي المهنية بالتنوع والمرونة، حيث جسّد قدرته على التأقلم مع الظروف مهما كانت صعبة، وعكست مسيرته إرادة صلبة وشخصية متعددة المواهب جمعت بين التعليم، الصحافة، القضاء، التجارة، والزراعة.

بدايته السياسية

تشكل التكوين السياسي لمحمد بن عبد الكريم الخطّابي من خلال أزمنة ثقافية وبيئات متباينة امتدت من طفولته في قرية أجدير وحتى عودته إليها من مليلية في ديسمبر/كانون الأول 1918. خلال هذه المرحلة التي جمعت بين طفولته، دراسته، شبابه، وعمله ضمن الإدارة الإسبانية، بدأ يتبلور وعيه السياسي الذي سيحدد مسار حياته لاحقًا.

ففي قلب الريف، انصهرت الخطوط العريضة لشخصية الخطابي في محيط غني بتقاليد العلم والسياسة والدين. كانت الزوايا، المنتشرة في قبائل الريف، تشكل منارات دينية واجتماعية تلجأ إليها القبائل لحل مشكلاتها الدينية والدنيوية، فيما كانت جامعة القرويين رمز الإشعاع العلمي آنذاك. وبينهما، ازدهرت معاهد علمية فتحت المساجد أبوابها لتعليم الطلبة، وشكلت مرحلة أولية لمن أراد استكمال دراسته في القرويين.

إلى جانب هذا الإطار الثقافي والديني، ساهمت بيئة قبيلة بني ورياغل، التي كانت الأشد بأسًا والأوسع نفوذًا بين قبائل الريف، في صياغة الوعي السياسي للخطابي. عايش منذ صغره حوادث سياسية مفصلية مثل تمرد القائد الزرهوني المعروف بـ"بوحمارة"، حيث أظهرت القبيلة قوتها ووقوفها الحازم حين سارعت إلى حمل السلاح لمواجهة جيش بوحمارة في خريف عام 1908.

والده، القاضي عبد الكريم، لعب دورًا محوريًا في صقل شخصيته السياسية، إذ كان يشركه في شؤون الإدارة والحكم والتعامل مع الأهالي والأجانب. مكنته هذه التجربة المبكرة من الإطلاع على آليات السياسة في بيئته، كما عُهد إليه تمثيل والده في مهام عدة، منها لقاء السلطان المولى عبد العزيز عام 1908، حيث نقل رسائل والده إليه.

حين انتقل الخطابي إلى مليلية المحتلة، التي تبعد نحو 70 ميلًا عن مسقط رأسه، أقام فيها لمدة تقارب 12 عامًا. هنا، انفتح على عالم جديد زوده بخبرة سياسية فريدة، إذ اطلع عن قرب على أساليب إدارة الإسبان وسياساتهم. كان يقول: "إني قد خالطت الإسبان زمنًا طويلًا، وأعرف مقاصدهم."

في البداية، لم يُبدِ الخطابي اهتمامًا كبيرًا بمواجهة الاحتلال الإسباني، إذ رأى فيه فرصة لجلب نوع من "التمدن" والاستقرار لمنطقة الريف التي كانت تعاني من الفوضى. لكن مع الوقت، وبعد تعمقه في خفايا السياسات الاستعمارية الإسبانية، تغيّرت نظرته جذريًا وازداد وعيه بنواياهم الاستعمارية.

كان عام 1915 نقطة تحول مفصلية في حياة الخطابي السياسية. اعتُقل آنذاك بتهمة التخابر مع الألمان والانخراط في العمل السياسي، ما عمّق من قناعته بضرورة مواجهة الاستعمار. وبعد إطلاق سراحه، عاد إلى أجدير عام 1919 ليبدأ مرحلة جديدة من حياته السياسية، حيث عمل مع والده على حشد القبائل لمواجهة زحف الاستعمار الإسباني.

تميزت شخصيته بالقدرة على جمع كلمة القبائل، فتمكن بفضل مكانته الفكرية والدينية من أن يصبح زعيمًا بارزًا وقائدًا موحدًا للريف. وصفه أحمد سكيرج في كتابه "الظل الوريف في محاربة الريف" بأنه "مجبول على الحلم مع سلامة صدر"، مستشهدًا بحادثة عفوه عن شخص حاول تسميمه.

وفي أبريل/نيسان 1921، وبعد وفاة والده (الذي يُعتقد أنه مات مسمومًا)، انعقد مؤتمر "جبل القامة"، الذي اتخذ بُعدًا عسكريًا وسياسيًا حاسمًا. لم يكن الجبل مجرد مكان للقاءات، بل تحول إلى مدرسة عسكرية ومركز للتدريبات، ما جعل منه قاعدة انطلاق الثورة الريفية التي ستسطر صفحات مجيدة في تاريخ المقاومة.

حياته في النضال والمقاومة
لويس دي أوتيزا محرر صحيفة لا ليبرتاد يلتقي محمد بن عبد الكريم الخطابي عام 1922 

امتدت حياة النضال لمحمد بن عبد الكريم الخطّابي على ثلاث مراحل مفصلية، خطّ فيها مسيرته كرجل مقاومة وقائد ثورة وأيقونة تحرر وطني، لتبقى ذكراه خالدة في تاريخ الكفاح ضد الاستعمار.

المرحلة الأولى: الثورة الريفية (1918-1926)

بدأت رحلة الخطابي النضالية في ديسمبر/كانون الأول 1918 مع عودته إلى أجدير، حيث انطلقت شرارة الثورة الريفية التي شكلت ثالث مواجهة كبرى ضد الاستعمار الإسباني، بعد معركة سيدي ورياش عام 1893، وثورة الشريف أمزيان عام 1909. 

في عام 1920، تصدّت المقاومة الريفية بقيادة محمد بن عبد الكريم الخطابي لمخططات الجنرال الإسباني مانويل سلفستري، الذي حاول إنزال جيشه في الحسيمة تمهيداً لاجتياح الشمال. بفضل عزيمة الريفيين، باءت المحاولة بالفشل، مما دفع إسبانيا إلى تغيير مسارها غرباً نحو أصيلة والعرائش، حيث واجهت مقاومة أقل حدة بسبب مهادنة زعيمها الريسوني للمحتل.

وجد الريفيون أنفسهم في مواجهة مستعمر يطوقهم من الشرق والغرب، بينما الجنوب تحت قبضة الفرنسيين منذ معاهدة الحماية عام 1912. ومع احتلال شفشاون، انطلقت شرارة حرب الريف، حيث وقف المجاهدون بعتاد بسيط وروح قتالية لا تُضاهى. اعتمدوا على خطط محكمة لاستنزاف العدو، وغنموا أسلحتهم من جحافله بجرأة وشجاعة، مقدمين مثالاً خالداً على التضحية والإبداع في ساحات المعارك.

معركة أنوال وإذلال الاستعمار

خلال خمس سنوات، قاد الخطابي أكثر من 200 معركة استرجع فيها 186 مركزًا عسكريًا إسبانيًا، لكن معركة "أنوال" كانت الأبرز. 

في صيف يوليو/تموز 1921، بجبال الريف الشاهقة شمال شرق المغرب، دارت أحداث واحدة من أعظم المعارك التي سجلها التاريخ الحديث: معركة أنوال. في تلك الفترة، كانت الحامية العسكرية الإسبانية، بقيادة الجنرال سيلفستري -الذي وعد مستهزئًا بشرب الشاي في منزل الخطابي-، تعيش حالة من الغرور والغفلة، ظناً منها أن مقاومة الثوار الريفيين بقيادة محمد بن عبد الكريم الخطابي ليست إلا تهديدات جوفاء. لكن "أسد الريف"، بحكمته ودهائه، كان يدرك أن التسرع ليس خياراً، وأن الانتصار الحقيقي يكمن في حرب استنزاف تُنهك العدو وتدفعه إلى التهور.

بحسابات دقيقة، ومع جيش لا يتجاوز 1500 مقاتل ضعيف التسليح، قرر الخطابي أن يُحكم حصاره على الحامية الإسبانية، مستفيداً من وعورة الجبال ومعرفته الدقيقة بجغرافيتها. وما هي إلا أيام حتى بدأ الجوع والمرض يتسللان إلى صفوف الإسبان المحاصرين، ليجد سيلفستري نفسه مدفوعاً إلى الهجوم، غير مدرك أن خصمه كان يقرأ تحركاته قبل وقوعها.

في 24 يوليو/تموز، بدأت القوات الإسبانية قصفها المدفعي والجوي على مواقع الثوار، لتشن بعدها هجوماً برياً قاده مرتزقة محليون. إلا أن هذه المحاولة باءت بالفشل الذريع بعد سقوط قائد المرتزقة، مما دفع بقية القوات إلى الهرب، تاركة أسلحتها غنيمة للمقاومين.

حين أدرك سيلفستري أن الهزيمة باتت وشيكة، حاول الانسحاب عشوائياً، متجاهلاً عروض التفاوض التي قدمها الخطابي. لكن انسحابه كان مقدمة لمجزرة مروعة، حيث تسللت قوات الخطابي إلى الممرات الجبلية والمرتفعات المحيطة، وفتحت النار على الجنود الإسبان المنسحبين. قُتل سيلفستري نفسه أثناء مراقبته للانسحاب، برصاص أحد المقاومين الذين تسللوا نحوه. ولم ينجُ من الكارثة سوى فرقة صغيرة بقيادة الجنرال نافارو، والتي طاردها الثوار إلى منطقة جبل العروي حيث تم القضاء عليها وأسر قائدها،.تكبد الجيش الإسباني فيها 15 ألف قتيل و570 أسيرًا.
في مذكراته، وصف الخطابي هذا النصر العظيم بقوله:

"ردت علينا هزيمة أنوال 200 مدفع، وأكثر من 20 ألف بندقية، وملايين الخراطيش، وسيارات وشاحنات، ومؤن تكفينا لإعداد جيش لحرب طويلة".

لم يكن هذا الانتصار مجرد هزيمة للعدو، بل كان تحولاً استراتيجياً، حيث أصبحت المقاومة الريفية تمتلك الأسلحة والإمدادات التي كانت تفتقر إليها، مما مكنها من مواصلة حربها ضد الاستعمار.

لكن أعظم ما يميز الخطابي لم يكن فقط انتصاراته العسكرية، بل أخلاقياته السامية. عامل الأسرى بكرمٍ وشهامة، حتى أن إحدى الأسيرات الإسبانيات صرحت: "إننا نلقى معاملة طيبة وليس هناك ما نشكو منه".

الاستراتيجية العسكرية التي اعتمدها الخطابي ألهمت قادة حركات التحرر العالمية مثل ماو تسي تونغ وهوشي منه وإرنستو تشي غيفارا. كما اعتمد الخطابي حفر الخنادق الممتدة تحت الأرض حتى مواقع العدو، وهو أسلوب أشاد به هوشي منه لاحقًا.

يروي سعيد السبع، مدير دائرة التنظيم الشعبي في منظمة التحرير الفلسطينية وأحد مؤسسيها البارزين، أن الزعيم الصيني ماوتسي تونغ، وأثناء استقباله لوفد فلسطيني في بكين (1971)، سألوه عن استراتيجية عملية ينصحهم بها لخوض ثورتهم التحريرية، فأجاب: "رفاقي الأعزاء، جئتم تريدون أن أحدّثكم عن حرب التحرير الشعبية، في حين أنه يوجد في تاريخكم القريب عبد الكريم الخطابي، الذي هو أحد المصادر الأساسية التي منها تعلّمت هذه الحرب".

وفي عام 1923، أعلن الخطابي قيام جمهورية الريف، التي جمعت قبائل المنطقة في إطار كونفدرالي، وتولى رئاستها، مؤكدًا أن هدف حركته كان التحرر واستعادة استقلال المغرب ووحدته الترابية. وبفعل صموده أمام الاستعمار الإسباني وقهره له، اضطرت إسبانيا للتحالف مع فرنسا التي دخلت الحرب بقيادة المارشال بيتان.

ولإخماد الثورة، لجأت الدولتان إلى استخدام السلاح الكيماوي، رغم توقيعهما حديثًا على اتفاقية جنيف التي تحرّم ذلك. وقد شن الطيران العسكري خلال عام واحد أكثر من 23 ألف مهمة قصف ألقت فيها الطائرات آلاف الأطنان من المتفجرات والقذائف، ما أضعف الثورة وأجبر قائدها على الاستسلام أمام القوات الفرنسية في 26 مايو/أيار 1926.

المرحلة الثانية: المنفى في لارينيون (1926-1947)

بعد استسلامه، نُفي الخطابي مع عائلته إلى جزيرة لارينيون الفرنسية بالمحيط الهندي، حيث عاش 21 عامًا في عزلة عن العالم، وابتعد فيها عن دائرة الأحداث السياسية الكبرى. وفي مايو/أيار 1947، أثناء ترحيله إلى فرنسا، اختار اللجوء إلى مصر حيث استقبلته القاهرة بالترحاب، وبدأ مرحلة جديدة من النضال السياسي.

المرحلة الثالثة: في المنفى بمصر (1947-1963)

في القاهرة، استقر الخطابي في فيلا صغيرة من طابقين لمدة تقارب 16 عامًا، لكنه لم ينقطع عن العمل السياسي. في يناير/كانون الثاني 1948، أسس "لجنة تحرير المغرب العربي" مع مجاهدي تونس والجزائر والمغرب، موجّهًا نداءً للوحدة والكفاح من أجل استقلال شعوب شمال أفريقيا.

"الظاهرة الاستعمارية المقيتة.. ستنحسر كلما حقّق شعب من الشعوب حُلمه في الحرية. في أي مكان تعرّض فيه الاستعمار لضربة من الضربات إلا وينعكس صداها إيجابياً في مكان آخر يخوض الشعب فيه المعركة نفسها".من كلمات محمد عبد الكريم الخطابي في البيان التأسيسي ل"لجنة تحرير المغرب العربي"

بعد هزيمة فرنسا القاسية في معركة "ديان بيان فو" بفيتنام، وتصاعد نيران المقاومة في المغرب والجزائر، اضطرت فرنسا إلى التفاوض حول استقلال المغرب. لكنها عمدت بدهاء إلى استبعاد رموز النضال الوطني مثل عبد الكريم الخطابي وعلال الفاسي ومحمد بلحسن الوزاني من مفاوضات "إيكس ليبان" في أغسطس/آب 1955.

كان الهدف واضحًا: صياغة استقلال شكلي يُبقي على مصالح فرنسا ونفوذها في المغرب، بعيدًا عن تأثير الزعماء الذين حملوا لواء التحرر الكامل. وأسفرت تلك المفاوضات عن تصريح "لاسيل سان كلو" في مارس/آذار 1956، الذي أعلن استقلال المغرب، لكنه لم يكن سوى استقلال على مقاس المستعمر.

بفطنته السياسية، استشعر عبد الكريم الخطابي هذا المخطط، فأطلق نداءً مؤثرًا للشعب المغربي، نُشر في صحيفة "كفاح المغرب العربي" في يناير/كانون الثاني 1956، تحت عنوان: "إكس ليبان فخّ منصوب". حذّر الخطابي من مغبة الرضوخ لهذا الاستقلال المُفخخ، ودعا إلى اليقظة والنضال من أجل حرية حقيقية لا تخضع لإملاءات المستعمر.

القضية الفلسطينية في قلب اهتمامات الخطابي

لم تكن فلسطين بعيدة عن وجدان الزعيم محمد بن عبد الكريم الخطابي، إذ بدأت علاقة التضامن بينه وبين قادتها منذ أيام ثورة الريف ضد الاستعمار. فقد سجلت فلسطين، بقيادة شخصيات بارزة مثل الشهيد عز الدين القسام ومفتي يافا الشيخ توفيق الدجاني، حملات دعم تضامنية تمثلت في مظاهرات وجمع التبرعات، تعبيرًا عن تأييدها لكفاحه.

مع صدور قرار تقسيم فلسطين عام 1947، تأكدت أولوية القضية الفلسطينية عند الخطابي. وبطلب من المجاهد أمين الحسيني، أطلق نداءً يدعو فيه الأمة الإسلامية والعربية إلى الجهاد لتحرير الأرض المغتصبة، قائلاً: "ما دام هذا العصر يضيع فيه الحق إذا لم تسانده قوة (…) فالواجب يفرض أن نتكلّم بالسيف لندفع عنا الظلم والحيف."

وفي تصريح له بعد لقائه الأمين العام للجامعة العربية في نوفمبر/تشرين الثاني 1947، أكد الخطابي قائلاً: "القضية الفلسطينية تحتلّ المكان الأول، والأعمال الآن أَوْلى من الأقوال." ولم يكن ذلك مجرد كلام، فقد لبّى النداء آلاف المتطوعين من العالم العربي والإسلامي، بينهم خمسة آلاف من المغرب العربي (ليبيا، المغرب، الجزائر، وتونس)، بقيادة العقيد المغربي الهاشمي الطود، المقرب من الخطابي. وقد شكل هؤلاء "الكتيبة 13" التي برزت بدورها البطولي في حرب 1948.

رغم إقامته البعيدة عن المغرب، ظل الخطابي رمزًا للمقاومة، واستقبل في يناير/كانون الثاني 1960 الملك محمد الخامس في منزله، ما يعكس مكانته التاريخية ودوره في النضال من أجل استقلال المغرب الكبير.


وفاته: نهاية رجل وقصة خالدة

في السادس من فبراير/شباط 1963، رحل محمد بن عبد الكريم الخطابي عن عمر ناهز الثمانين عامًا إثر سكتة قلبية، ودُفن في مقبرة الشهداء بالعباسية ضواحي القاهرة. لكن روحه المقاومة وإرثه النضالي ظلا نبراسًا للأجيال، شاهديْن على مسيرة رجل جعل من التحرر قضية عمره وأضاء صفحات النضال ضد الاستعمار.

ليست هناك تعليقات

يتم التشغيل بواسطة Blogger.