أيام السيبة في المغرب
يشير مصطلح بلاد السيبة في التاريخ المغربي إلى الفضاءات التي لم تكن مؤمنة ولا تتواجد فيها أجهزة المخزن التابعة للسلطان، حيث امتنعت القبائل في هذه المناطق عن دفع الضرائب مكتفية بالاعتراف بالمكانة الروحية للسلطان دون الخضوع لسلطته السياسية والإدارية. وعلى النقيض من ذلك، كانت بلاد المخزن تخضع لسلطة الدولة بمختلف أبعادها الدينية والسياسية والمالية. كان السلطان يشرف مباشرة على تعيين الموظفين المحليين كالقواد والشيوخ والنظار، ويتولى حماية الطرقات الرئيسية بتكليف القبائل المجاورة، كما كانت أسواق بلاد المخزن تتميز بوجود جباة الضرائب عند مداخلها. بالإضافة إلى ذلك، كانت هناك محطات استراحة تُعرف باسم "النزايل" تُستخدم لتموين المسافرين والقوافل في هذه المناطق.
ومع ذلك، لم تكن بلاد المخزن دائماً آمنة تماماً، ولا بلاد السيبة خطيرة بشكل دائم، إذ كانت الأمور نسبية وتختلف حسب الظروف. بلغت ظاهرة السيبة ذروتها في القرن التاسع عشر، حيث ظهرت وظيفة "الزطاط"، وهو الشخص الذي كان يرافق المسافرين عبر طرق بلاد السيبة الخطرة. كما اجتهدت القبائل والجماعات في إيجاد وسائل حماية تتناسب مع احتياجاتها، مثل بناء الأسوار والأبراج للحماية.
بعض القبائل، خصوصاً الزراعية منها، لجأت إلى التعاقد مع أشخاص أو جماعات مقابل جزء من محاصيلها الزراعية لضمان الحماية، كما حدث في بعض قبائل الجنوب الشرقي. إلى جانب ذلك، ظهرت أشكال حماية مبتكرة مثل "المزراك" و"الذبيحة" و"تايسا" أو "تتافسكا" و"أمورن" و"تاكَمات"، وكلها وسائل تقليدية وفرتها القبائل والزوايا لمواجهة التحديات الأمنية.
أما الأمن الذي وفره المخزن فقد ظل محدوداً، رغم الحملات العسكرية التي قادها عدد من قادته مثل المدني الكلاوي والتهامي الكلاوي. ورغم وجود جيوش مخزنية، إلا أن نفوذ المخزن لم يكن يشمل جميع المناطق.
على صعيد آخر، اهتم المستشرقون الأوروبيون خلال القرن التاسع عشر بدراسة الإدارة المخزنية المغربية، وركزت السوسيولوجيا الاستعمارية على تحليل هذه الإدارة، مما أدى إلى خلق نظرية تستند إلى "خطاب علمي" حول المجتمع المغربي. اعتبر المستشرقون بلاد السيبة شكلاً من أشكال المقاومة لسلطة المخزن، الذي صورته أدبياتهم على أنه العدو الرئيسي للقبائل الأمازيغية. وصفوا المخزن بأنه جهاز يهدف إلى جمع الضرائب وبسط النفوذ على القبائل "المتمردة" التي كانت، حسب زعمهم، تسعى دائماً للانفلات من قبضته. إلا أن الواقع كان أكثر تعقيداً مما صورته هذه الدراسات الاستعمارية، حيث كان جهاز المخزن متوغلاً حتى في المناطق الجبلية والقبائل الأمازيغية التي روجت هذه الدراسات لعزلتها واستقلالها عن الدولة المركزية.
جذور تاريخية
برز في المجال المغربي ارتباط وثيق بين نشأة الدولة المركزية ومراقبة شبكات المسالك، وهي علاقة تتجسد في تداخل طرق التجار وطرق الجند. يتضح ذلك منذ العصر الوسيط، وخاصة خلال الدولة المرابطية التي اتبعت المحور التجاري المعروف بـ "طريق اللمتوني" الذي يبدأ من الجنوب. مرورًا بالدول التي تعاقبت على حكم المغرب، كانت شبكات المسالك تتمحور في فاس، حيث تلتقي الطرق القادمة من تلمسان وسجلماسة ومراكش. كما كانت مراكش نقطة التقاء الطرق الآتية من فاس وسجلماسة ورباط الفتح. في القرن التاسع عشر، استمر موقع فاس ومراكش كقطبين رئيسيين، وتزايدت أهمية المسالك المحاذية للساحل الأطلسي. لعبت الدولة المرينية دورًا في التشكل الترابي للمغرب، حيث تم تمييز نظام الحكم المغربي عن إيديولوجية الخلافة المشرقية، وأدى ذلك إلى قيام كيان سياسي في المغرب الأقصى قريب من نموذج الدولة المركزية. ومن خلال هذا النظام، أصبح المغرب يشهد مرحلة تأسيسية للدولة المغربية منذ الفترة الإدريسية.
كما شهد المغرب ثنائية جغرافية ذات جذور تاريخية تمثلت في منطقة الغرب/الشمال ومنطقة الحوز/الجنوب. المنطقة الأولى تمتد من أم الربيع إلى وجدة مرورًا بالسهول الأطلسية وسهل سايس، بينما المنطقة الثانية تمتد من أم الربيع إلى أقصى سوس. هذه الثنائية كانت مؤثرة على عدة مستويات، سواء من الناحية السياسية في صراع السلطة بين العصبيات أو بين الأمراء، أو من الناحية الثقافية من خلال طقوس زيارة تهنئة السلطان التي كان يؤديها العمال في المناسبات الكبرى. كما برزت هذه الثنائية على مستوى الممارسة السياسية من خلال التباين بين مدينتي فاس ومراكش، وهو ما كرسته مؤسسة الأمير الخليفة في القرن التاسع عشر، حيث كان من المعتاد أن يتولى الأمير مسؤولية حكم مكناس وفاس إذا كان السلطان في مراكش، والعكس صحيح.
سياسة تأمين الطرق لم تظهر فقط مع بداية التسرب الأوروبي إلى المغرب، بل كانت جزءًا من بنية سياسية-مجالية عميقة الجذور. ساعد الموقع الجغرافي للمناطق الجبلية الوعرة في تأمين المناطق القاصية التي يصعب الوصول إليها، ما جعل من السهل على القبائل هناك الاعتصام والدفاع ضد جنود السلطة المركزية، مما سمح لها بالانفلات من رقابة المخزن وعدم الانصياع للسلطة. تطور مفهوم السيبة ليشمل، بالإضافة إلى معناه المكاني المباشر، التمرد ضد السلطة المركزية في أي مكان، بما في ذلك العاصمة نفسها أو المناطق القريبة منها. في هذا السياق، يذكر الباحث الفرنسي روبرت مونتان أن "فبمجرد أن يموت السلطان، وتستفحل الأزمة بين المتنافسين على الخلافة، تنزع القبائل القوية إلى قوانينها الخاصة... مثلما حدث في أعقاب موت السلطان عبد الرحمان، حيث اندلعت سيبة دامت خمس سنوات، اجتاحت خلالها كامل السهول في المغرب الأقصى".
بينما كانت توجد بين بلاد المخزن وبلاد السيبة منطقة وسطى شبه مخزنية، تمارس فيها السلطة المركزية بعض وظائفها بشكل غير مباشر أو جزئي، حيث كانت تعتمد على زعماء بعض القبائل ليتولوا جمع الضرائب من قبائل أخرى أو من المناطق المجاورة، مقابل إعفائهم من بعض هذه الضرائب.
أبرز فترات السيبة
مصطلحات مرتبطة بتلك الحقبة
النزالة
كانت النزالة بمثابة محطات استراحة محمية للمسافرين والقوافل، تُدار إما من قبل الدولة (المخزن) أو القبائل والزوايا. وفّرت النزالة الأمن والمبيت والطعام والشراب مقابل رسوم على الدواب فقط. إذا رفض المسافرون الالتزام بالبقاء، كانت النزالة تُخلي مسؤوليتها عن أي مخاطر قد يتعرضون لها. هذه المحطات كانت منتشرة بمسافات مدروسة (40-45 كلم)، وتطورت مع الوقت لتصبح قرى ثم مدناً حضرية.
الزطاط
الزطاط كان شخصية أمنية موثوقة تؤمن الحماية للمسافرين عبر الطرق الوعرة وغير الآمنة التي يرتادها اللصوص. عمله كان يرتبط بعقد "جعل" مع المسافرين أو التجار مقابل مبلغ مالي. الزطاط كان حلاً عملياً لضمان سلامة القوافل والحجاج، وظل دوره مستمراً حتى بدايات القرن العشرين، حيث كان يُعرف بحماية ممتلكات التجار وإبراز اسمه كضمان أمني. القبائل مثل بني معقل وآيت عطا كانت معروفة بممارسة الزطاطة، وامتدت هذه المهنة إلى المناطق الجبلية والصحراوية.
تتافسكا (الذبيحة)
كانت هذه الممارسة مرتبطة بعقود التحالف والحماية بين القبائل الأمازيغية والعربية. التحالف كان يتجاوز رابطة النسب، حيث يصبح الفرد المتحالف جزءاً من القبيلة بشكل كامل. عندما تلجأ قبيلة ضعيفة لحماية أقوى، كانت تقدم ذبيحة رمزية "تتافسكا" لتعزيز العلاقة. اليهود أيضاً استخدموا هذا النظام لضمان الحماية، حيث كانوا يدخلون في علاقات تعاقدية مع القبائل الأمازيغية تعرف بـ"تاضا" (الميثاق)، مما يمنحهم مكانة اجتماعية مماثلة للأخوة أو الرضاعة.
الخاتمة
تعتبر "السيبة" من الظواهر التي ساهمت في تشكيل المجتمع والنظام السياسي المغربي، وتوضح كيف أن التحديات الجغرافية والسياسية أسهمت في نشوء حالات من التمرد والتسيب. كما أن الوسائل الأمنية التي المعتمدة للتنقل بين المناطق كانت جزءًا من محاولة الحفاظ على الاستقرار والأمن ومنع الفوضى . ولهذا من خلال دراسة السيبة، نتمكن من فهم التعقيدات التاريخية التي ساهمت في تشكيل المغرب الحديث.

ليست هناك تعليقات